منذ أن فرض
الله الحج على المسلمين قبل أكثر من 14 قرناً، والملايين يتوافدون سنوياً إلى بيت
الله الحرام، يلبون نداء سيدنا إبراهيم عليه السلام. ومع تزايد أعداد المسلمين حول
العالم الذي تجاوز المليارين، تحولت إدارة هذا التجمع البشري الهائل إلى تحدٍ
لوجستي واستراتيجي كبير. من قوافل الجمال والطرق البرية الوعرة التي كانت تستغرق
أشهراً، إلى رحلات الطيران التي تنقل الحجاج في ساعات معدودة، ومن الخيام البسيطة
إلى المجمعات السكنية الفاخرة، ومن الإجراءات الورقية المعقدة إلى المنصات الرقمية
المتطورة - تطورت منظومة الحج بشكل جذري.
في عام
2025، تقف المملكة العربية السعودية على مفترق طرق تاريخي في إدارة شؤون الحج، مع
إطلاق "منصة تصريح" الرقمية الموحدة، وتطبيق إجراءات تنظيمية غير
مسبوقة، وتوزيع حصص الحج بين الدول الإسلامية وفق معايير دقيقة. هذه التحولات
الجذرية تأتي في ظل تحديات مناخية متزايدة، وبعد موسم حج 2024 الذي شهد وفاة 1301
حاج نتيجة الإجهاد الحراري، 83% منهم من غير المصرح لهم بالحج.
بين
الماضي العريق والحاضر المتطور، وبين الأرقام والإحصائيات والقصص الإنسانية، يقف
موسم حج 2025 كنموذج للتوازن بين الحفاظ على روحانية الفريضة وتطبيق أحدث التقنيات
لضمان سلامة الحجاج. فكيف ستوزع المملكة حصص الحج هذا العام؟ وما هي الإجراءات
الجديدة التي ستطبقها؟ وكيف ستواجه التحديات المناخية والتنظيمية المتزايدة؟
تاريخ حصص الحج وآلية توزيعها بين الدول الإسلامية
في عام
1988، وفي خضم مشروع توسعة الحرم الثانية، تقدمت المملكة العربية السعودية بمذكرة
مفصلة إلى منظمة المؤتمر الإسلامي (منظمة التعاون الإسلامي حالياً) حول خطط وبرامج
ومشروعات توسعة الحرمين الشريفين. تضمنت هذه المذكرة إجراءات تحديد عدد الحجاج
بنسبة حاصل تقسيم عدد سكان الدولة على عدد المسلمين في العالم.
وفي
الاجتماع السابع عشر لوزراء الخارجية في مارس 1988، والذي عُقد في الأردن، تم
تأييد هذا الإجراء، وطالب وزراء الخارجية من كل الدول الأعضاء في المنظمة بالتعاون
مع حكومة المملكة في كل ما من شأنه تنفيذ الإجراءات الملائمة لذلك، بما يكفل تحقيق
تكافؤ الفرص بين جميع الحجاج، وتأمين أداء مناسكهم وتوفير جميع وسائل الراحة لهم.
ومنذ
ذلك الحين، تُحدد المملكة العربية السعودية نسبة حجاج كل دولة عند 1,000 حاج لكل
مليون نسمة تقريباً. هذه المعادلة البسيطة أصبحت أساساً لتوزيع حصص الحج بين الدول
الإسلامية، وهي تضمن توزيعاً عادلاً يتناسب مع الكثافة السكانية للمسلمين في كل
دولة.
في عام
2024، بلغ إجمالي عدد الحجاج مليوناً و833 ألفاً و164 حاجاً وحاجة من أكثر من 200
دولة، بينهم 221 ألفاً و854 من داخل السعودية. وتشير التوقعات إلى أن عدد الحجاج
في موسم 2025 سيكون مقارباً، مع احتمال زيادة طفيفة في ظل استمرار جهود المملكة
لتطوير البنية التحتية للمشاعر المقدسة.
الإجراءات والضوابط الجديدة لموسم حج 2025
في
إطار استعداداتها لموسم حج 2025، أعلنت المملكة العربية السعودية عن سلسلة من
الإجراءات والضوابط الجديدة التي تهدف إلى تنظيم الحج وضمان سلامة الحجاج. من أبرز
هذه الإجراءات:
- منع تسكين
النزلاء في مكة دون تصريح الحج: شددت
وزارة السياحة السعودية على جميع مرافق الضيافة في مكة المكرمة بمنع تسكين
القادمين غير الحاصلين على تصريح حج، أو تصريح دخول للعمل، وذلك ابتداءً من
يوم الثلاثاء 29 أبريل 2025.
- تحديد
مواعيد دخول ومغادرة المعتمرين: حددت
وزارة الداخلية آخر موعد لدخول المعتمرين إلى السعودية في 13 أبريل 2025،
وآخر موعد لمغادرتهم في 29 من الشهر ذاته، مؤكدة أن البقاء بعد هذا التاريخ
يعد مخالفة تستوجب العقوبات النظامية.
- تصاريح
إلزامية للمقيمين الراغبين في دخول مكة: اعتباراً
من الأربعاء 23 أبريل 2025، سيطلب من المقيمين الراغبين في دخول العاصمة
المقدسة الحصول على تصاريح من الجهات المعنية، ولن يسمح بدخول غير الحاصلين
على تصاريح نظامية، وسيعادون من حيث أتوا.
- غرامات
على الشركات المخالفة: بدأت
السلطات تطبيق غرامات على الشركات والمؤسسات التي تقدم خدمات الحج والعمرة،
في حال تأخرت في إبلاغ الجهات المتخصصة عن أي حاج أو معتمر لم يغادر بعد
انتهاء المدة المحددة لإقامته. وقد تصل هذه الغرامات إلى 100 ألف ريال (نحو
26 ألف دولار أميركي)، وتزداد بتعدد المخالفات.
- آخر موعد
لإصدار تأشيرات الحج: حددت
السلطات السعودية 14 أبريل 2025 (15 شوال 1446 هـ) كآخر موعد لإصدار تأشيرات
الحج للموسم الجديد.
هذه
الإجراءات تأتي في إطار جهود المملكة المتواصلة للحد من ظاهرة الحج غير النظامي،
وضمان سلامة الحجاج في ظل التحديات المناخية المتزايدة.
المنصة
الرقمية الموحدة لتصاريح الحج "منصة تصريح"
في
خطوة تقنية متقدمة، أطلقت وزارة الداخلية السعودية المنصة الرقمية الموحدة لتصاريح
الحج "منصة تصريح" التي تتيح إصدار التصاريح والتراخيص إلكترونياً لحجاج
الداخل والخارج، بالتكامل مع وزارة الحج والعمرة عبر منصة "نسك".
تمكن
هذه المنصة العاملين والمتطوعين في موسم الحج، والمركبات التي تقلهم، من الدخول
إلى مكة المكرمة والمشاعر المقدسة، مع إمكانية استعراض التصاريح عبر التطبيق
الوطني الشامل "توكلنا"، فيما يمكن للجهات الأمنية التحقق منها آلياً
عبر تطبيق "ميدان".
تمثل
"منصة تصريح" نقلة نوعية في إدارة شؤون الحج، حيث تسهم في:
- تسهيل
إجراءات الحصول على تصاريح الحج للمواطنين والمقيمين داخل المملكة.
- ضبط دخول
الحجاج إلى المشاعر المقدسة والتأكد من حصولهم على التصاريح اللازمة.
- تقليل
الازدحام والتكدس في المشاعر المقدسة من خلال التحكم الدقيق في أعداد الحجاج.
- مكافحة
ظاهرة الحج غير النظامي التي تسببت في وفيات عديدة خلال موسم حج 2024.
- توفير
قاعدة بيانات دقيقة عن الحجاج تساعد في تقديم الخدمات المناسبة لهم.
وتأتي
هذه المنصة ضمن جهود المملكة لرقمنة خدمات الحج والعمرة، وتحسين تجربة الحجاج،
وتسهيل الإجراءات الإدارية المرتبطة بالحج.
التحديات التي تواجه موسم الحج 2025
يواجه
موسم حج 2025 عدداً من التحديات الكبيرة، أبرزها:
الإجهاد الحراري
شهد
موسم حج 2024 وفاة 1301 حاج نتيجة للإجهاد الحراري، وهو ما دفع السلطات السعودية
إلى اتخاذ إجراءات استثنائية لموسم 2025. وأوضح وزير الصحة السعودي فهد الجلاجل أن
نحو 83% من المتوفين لم يكونوا من المصرح لهم بالحج، مضيفاً أن "عديداً منهم
لم يحملوا بطاقات تعريفية، مما استدعى وقتاً للتعرف إليهم".
وفي ظل
التغيرات المناخية العالمية وارتفاع درجات الحرارة، يتوقع أن يكون الإجهاد الحراري
تحدياً رئيسياً في موسم حج 2025، مما يتطلب استعدادات خاصة من قبل السلطات
السعودية والبعثات الرسمية للدول المشاركة.
الحج غير النظامي
تعد
ظاهرة الحج غير النظامي من أبرز التحديات التي تواجه موسم الحج، حيث يحاول الآلاف
سنوياً أداء فريضة الحج دون الحصول على تصاريح رسمية، مما يعرضهم لمخاطر صحية
وأمنية كبيرة.
وقد
كشفت تقارير رسمية عن تورط بعض شركات السياحة في تنظيم رحلات حج غير نظامية
باستخدام تأشيرات زيارة، مما يمنع الحجاج من دخول مكة النظامية، ويدفعهم إلى السير
مسافات طويلة عبر طرق صحراوية في ظروف قاسية، من دون توفير سكن ملائم في المشاعر.
ولمواجهة
هذه الظاهرة، اتخذت السلطات السعودية إجراءات صارمة، منها:
- إطلاق
"منصة تصريح" الرقمية لضبط دخول الحجاج.
- فرض
غرامات مالية كبيرة على الشركات المخالفة.
- منع تسكين
غير الحاصلين على تصاريح حج في مرافق الضيافة بمكة.
- تشديد
الرقابة على المنافذ والطرق المؤدية إلى المشاعر المقدسة.
التحديات اللوجستية
مع
توقع وصول عدد الحجاج إلى نحو مليونين في موسم 2025، تواجه المملكة تحديات لوجستية
كبيرة تتعلق بنقل وإسكان وإطعام هذا العدد الهائل من الحجاج في فترة زمنية قصيرة.
وتعمل
السلطات السعودية على تطوير البنية التحتية للمشاعر المقدسة، وتحسين خدمات النقل
والإسكان، وتوفير الخدمات الصحية والأمنية اللازمة لضمان سلامة الحجاج وراحتهم.
حصص بعض الدول من الحجاج في موسم 2025
تختلف
حصص الدول من الحجاج باختلاف عدد سكانها المسلمين، وفقاً لمعادلة 1000 حاج لكل
مليون نسمة. وفيما يلي حصص بعض الدول لموسم حج 2025:
- الإمارات
العربية المتحدة: 6,228 حاجاً،
وتتميز عملية الفرز هذا العام بأن 5,648 حاجاً (أي ما يعادل 91% من العدد
الكلي) يؤدون فريضة الحج للمرة الأولى، أما البقية وهم 580 حاجاً فيمثلون من
سبق لهم أداء الفريضة.
- قطر: 4,400 حاج،
ويشترط بالنسبة للحجاج القطريين، ألا يقل عمر من يرغب في التسجيل للحج عن 18
عاماً، مع إمكانية إضافة 3 مرافقين للقطريين.
- المغرب: 34,000 حاج،
موزعين بين 22,500 حاج بتأطير من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، و11,500
حاج بتأطير من وكالات الأسفار.
- مصر: تم
تخصيص العدد الأكبر من تأشيرات الحج 2025 للمستويين الاقتصادي والاقتصادي
المتميز، وفقاً لوزارة السياحة والآثار المصرية.
- أوروبا
وأمريكا وأستراليا: زيادة
الحصة من 50 ألف إلى 65 ألف حاج، مع إمكانية تخصيص الباقات إلى دول معينة دون
أن تكون موجهة إلى كل الدول كما حدث العام الماضي.
هذه
الحصص تعكس حرص المملكة العربية السعودية على توزيع فرص أداء فريضة الحج بشكل عادل
بين الدول الإسلامية، مع مراعاة الطاقة الاستيعابية للمشاعر المقدسة.
تأثير رؤية المملكة 2030 على تطوير منظومة الحج
تمثل
رؤية المملكة 2030 نقطة تحول في تطوير منظومة الحج والعمرة، حيث تستهدف الرؤية
استقبال 30 مليون معتمر سنوياً بحلول عام 2030، مقارنة بـ 8 ملايين معتمر في عام
2015.
وفي
إطار هذه الرؤية، تعمل المملكة على تنفيذ مشروعات ضخمة لتطوير المشاعر المقدسة،
منها:
- توسعة
الحرمين الشريفين: تستمر
مشروعات توسعة الحرمين الشريفين لاستيعاب أعداد أكبر من الحجاج والمعتمرين،
مع تحسين الخدمات المقدمة لهم.
- تطوير
البنية التحتية: تطوير
شبكات الطرق والنقل العام، وتحسين خدمات المياه والكهرباء والصرف الصحي في
مكة المكرمة والمدينة المنورة.
- رقمنة
خدمات الحج والعمرة: إطلاق
منصات رقمية متطورة مثل "منصة تصريح" و"منصة نسك" لتسهيل
إجراءات الحج والعمرة، وتحسين تجربة الحجاج والمعتمرين.
- تطوير
قطاع الضيافة: بناء
فنادق ومجمعات سكنية جديدة لاستيعاب الأعداد المتزايدة من الحجاج والمعتمرين،
مع تحسين جودة الخدمات المقدمة.
- تعزيز
الأمن والسلامة: تطبيق
أنظمة أمنية متطورة لضمان سلامة الحجاج والمعتمرين، ومنع الحوادث والتدافع.
وتهدف
هذه المشروعات إلى تحويل الحج والعمرة إلى تجربة روحانية متكاملة، تجمع بين
الأصالة والمعاصرة، وتلبي احتياجات الحجاج والمعتمرين من مختلف أنحاء العالم.
مستقبل حصص الحج في ظل التحديات والتطورات
مع
اقتراب موسم حج 2025، تقف المملكة العربية السعودية أمام مرحلة فاصلة في تاريخ
إدارة شؤون الحج. فمن جهة، تمثل الإجراءات التنظيمية الجديدة والمنصات الرقمية
المتطورة خطوة كبيرة نحو تحديث منظومة الحج وجعلها أكثر كفاءة وأماناً. ومن جهة
أخرى، تفرض التحديات المناخية والصحية واللوجستية ضغوطاً متزايدة على هذه
المنظومة، وتتطلب استجابات سريعة ومبتكرة.
إن
نظام توزيع حصص الحج بين الدول الإسلامية، والذي يعتمد على معادلة 1000 حاج لكل
مليون نسمة، يمثل محاولة لتحقيق العدالة في توزيع فرص أداء هذه الفريضة المقدسة.
لكن مع تزايد أعداد المسلمين حول العالم، وتنامي الرغبة في أداء فريضة الحج، تبرز
الحاجة إلى إعادة النظر في هذه المعادلة، وربما تطويرها لتراعي عوامل أخرى إلى
جانب الكثافة السكانية.
كما أن
مأساة وفاة 1301 حاج في موسم 2024 نتيجة الإجهاد الحراري، تضع مسؤولية كبيرة على
عاتق المملكة والدول المشاركة في الحج لاتخاذ إجراءات استباقية لمنع تكرار مثل هذه
المآسي. وهنا تبرز أهمية "منصة تصريح" الرقمية ومنصة "نسك" في
ضبط أعداد الحجاج والتأكد من حصولهم على التصاريح اللازمة، ومكافحة ظاهرة الحج غير
النظامي التي كانت سبباً رئيسياً في وفاة معظم الضحايا.
وفي ظل
رؤية المملكة 2030، التي تستهدف تطوير منظومة الحج والعمرة واستقبال أعداد أكبر من
الحجاج والمعتمرين، تبرز الحاجة إلى توازن دقيق بين زيادة الأعداد وضمان سلامة
وراحة الحجاج. وهذا يتطلب استثمارات ضخمة في البنية التحتية، وتطوير التقنيات
الذكية، وتعزيز التعاون مع الدول الإسلامية والمنظمات الدولية.
في
الختام، يمثل موسم حج 2025 فرصة للمملكة العربية السعودية لإثبات قدرتها على إدارة
هذا التجمع البشري الهائل بكفاءة وأمان، وتقديم نموذج يحتذى به في التوفيق بين
الأصالة والمعاصرة، وبين الروحانية والتقنية. كما يمثل فرصة للدول الإسلامية
لتعزيز التعاون والتنسيق فيما بينها، وضمان حصول مواطنيها على فرص عادلة لأداء هذه
الفريضة المقدسة.
ومع
استمرار التطورات التقنية والتنظيمية، وتزايد الوعي بأهمية السلامة والصحة العامة،
يمكننا أن نتوقع مستقبلاً أكثر إشراقاً لمنظومة الحج، تتحقق فيه رؤية المملكة
2030، ويتمكن المسلمون من مختلف أنحاء العالم من أداء فريضة الحج في أجواء من
الأمان والراحة والروحانية.